الزواج: هل هو نصيب أم اختيار؟

الزواج من أقدم وأهم المؤسسات الاجتماعية التي عرفها الإنسان عبر العصور، وهو نقطة محورية في حياة الفرد، تجمع بين عنصرين أساسيين يتحكمان في مسار هذه العلاقة وهما: النصيب والاختيار. يتناول هذا المقال بشكل معمق وعلمي العلاقة بين هذين المفهومين في إطار الزواج، مستعرضًا الأبعاد الثقافية والاجتماعية والنفسية والفلسفية، ومدى تأثير كل منهما على بناء علاقة زوجية ناجحة ومستقرة.

مفهوم الزواج وأهميته الاجتماعية

الزواج هو عقد قانوني واجتماعي يجمع بين شخصين بهدف تكوين أسرة واستمرار النسل وتنظيم الحياة المشتركة. ويُعد الزواج مؤسسة اجتماعية ذات أبعاد متعددة، تشمل الدين، والقانون، والعادات، والتقاليد، كما يرتبط بمسؤوليات وحقوق متبادلة بين الزوجين. ازدادت أهمية الزواج مع تطور المجتمعات إذ لم يعد مجرد علاقة بين شخصين، بل أصبح ركيزة أساسية لبناء المجتمعات وتأسيس الاستقرار النفسي والاجتماعي للأفراد.

النصيب في الزواج: تعريفه وأبعاده

النصيب في مفهومه الشعبي والفلسفي يعني أن لكل إنسان قدرًا مقدرًا في حياته، ويشمل هذا القدر أشخاصًا معينين سيقابلهم في حياته، ومنهم شريك الحياة. هذا التصور مستمد من معتقدات دينية وثقافية كثيرة تطرح فكرة أن الأمور الحياتية، ومنها الزواج، محددة سلفًا بنصيب مكتوب لا يمكن تغييره. في هذا السياق، يُنظر إلى الزواج على أنه قدر محتوم، يُفترض أن يلتقي فيه الطرفان في الوقت والمكان المناسبين، ولا سيطرة للإنسان عليه سوى الانتظار والقبول.

تدعم الكثير من النصوص الدينية والتراثية فكرة النصيب، حيث يتم التأكيد على أن الإنسان لا يستطيع اختيار نصيبه، بل ما عليه سوى السعي والرضا بما قسمه الله له. وتقول هذه المعتقدات إن الزواج الحقيقي هو الذي يجمع بين القدر والقدر، وأن أي محاولة للتهرب من النصيب قد تؤدي إلى نتائج غير مرضية.

الاختيار في الزواج: تعريفه وأبعاده

على النقيض من النصيب، يعتبر الاختيار في الزواج نتاجًا لعوامل عقلانية ومنطقية يقوم بها الإنسان بناءً على رغباته واحتياجاته. يشمل الاختيار جوانب متعددة مثل: التوافق النفسي، القيمي، الاجتماعي، والاقتصادي. فالاختيار هو قدرة الإنسان على تقييم الخيارات المتاحة أمامه واختيار الأنسب له من شركاء محتملين بناءً على معايير شخصية وعقلانية.

الاختيار في الزواج يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحرية الإرادة ومسؤولية الفرد، إذ يفرض على الإنسان أن يختار شريك حياته بعناية ودراسة، وأن يتحمل نتائج قراره. ومن هذا المنطلق، فإن الزواج المختار هو مشروع بناء واعي يهدف إلى الاستقرار النفسي والاجتماعي للطرفين، ونجاح العلاقة الزوجية يكون غالبًا نتيجة للتوافق والتفاهم بينهما.

التفاعل بين النصيب والاختيار في الزواج

في الواقع، لا يمكن فصل النصيب عن الاختيار في تجربة الزواج، فهما عنصران متكاملان يتداخلان في حياة الإنسان. لا ينكر المؤمنون بالنصيب حرية الإنسان في الاختيار، وإنما يرون أن الاختيار يجب أن يتم ضمن إطار القدر المحتوم، بمعنى أن الإنسان يختار من ضمن عدة خيارات يتيحها له النصيب.

يرى علماء النفس والاجتماع أن النصيب يمثل الظروف التي يمر بها الإنسان، مثل المكان والزمان والعائلة التي ينتمي إليها، بينما يمثل الاختيار القرار الفردي المستند إلى العقل والعاطفة. وبالتالي، يلتقي النصيب والاختيار في بناء علاقة زوجية متوازنة، حيث تشكل الظروف البيئية والاجتماعية (النصيب) الإطار الذي يتم فيه اتخاذ القرار (الاختيار).

العوامل المؤثرة في النصيب والاختيار

العوامل الثقافية والدينية

تلعب المعتقدات الدينية والثقافية دورًا جوهريًا في تشكيل مفهوم النصيب والاختيار. ففي بعض المجتمعات التي تعتمد على الدين كمصدر رئيسي للتوجيه، ينتشر الاعتقاد بقدسية النصيب، ويُشجع الأفراد على القبول بالزواج كما هو مقدر لهم. أما في المجتمعات الحديثة، حيث تحظى حرية الاختيار بمكانة أكبر، فإن القرارات تتخذ بناءً على التوافق والوعي.

العوامل النفسية

تؤثر الشخصية والحالة النفسية للفرد في مدى قدرته على الاختيار والقبول بالنصيب. فالإنسان ذو الثقة بالنفس العالي والوعي الذاتي يمتلك قدرة أكبر على اتخاذ قرارات واعية حول شريك حياته، بينما الشخص المنطوي أو المتردد قد يميل إلى رؤية الزواج كنصيب لا مفر منه.

العوامل الاجتماعية والاقتصادية

الظروف الاجتماعية والاقتصادية تشكل البيئة التي يلتقي فيها النصيب والاختيار. فقد تحدد الفرص المتاحة للزواج، وتؤثر على معايير اختيار الشريك، مثل المستوى التعليمي، والحالة المالية، والموقع الجغرافي. في المجتمعات التي تضع ضغوطًا اجتماعية قوية على الزواج المبكر أو الزواج من فئات معينة، يقل دور الاختيار الشخصي لصالح النصيب الاجتماعي.

الزواج في ضوء الدراسات العلمية الحديثة

تشير الأبحاث النفسية والاجتماعية الحديثة إلى أن نجاح الزواج يعتمد بدرجة كبيرة على التوافق والتفاهم بين الزوجين، وهو ما يرتبط ارتباطًا مباشرًا بالاختيار الواعي. ومع ذلك، لا يمكن تجاهل دور النصيب في توجيه الأفراد إلى مسارات حياة معينة، قد تكون إيجابية أو سلبية.

أظهرت دراسات علم النفس الاجتماعي أن التوافق في القيم، والاهتمامات، والأساليب الحياتية هو عامل رئيسي لاستمرارية الزواج ورضا الزوجين عنه. لذلك، فإن الاختيار الواعي والمسؤول يساهم في تقليل نسبة الطلاق وتعزيز الاستقرار الأسري.

العلاقة بين النصيب والاختيار في ضوء الفلسفة

من الناحية الفلسفية، يشكل الزواج نموذجًا حيًا للصراع والتكامل بين الحتمية والحرية. فالنصيب يمثل الحتمية التي تفرض قيودًا على الإنسان، أما الاختيار فيمثل الحرية التي تتيح له إمكانية التصرف ضمن هذه القيود. يرى الفلاسفة أن الإنسان في الزواج يواجه تجربة وجودية تجمع بين قبول الواقع (النصيب) ومحاولة تغييره أو التأقلم معه (الاختيار).

يطرح بعض الفلاسفة فكرة أن الزواج الناجح هو الذي يجمع بين الرضا بما هو مكتوب والجهد الشخصي لتطوير العلاقة، فلا يكفي أن يؤمن الإنسان بالنصيب دون أن يبذل جهدًا في العلاقة الزوجية.

الجدول التالي يوضح مقارنة تفصيلية بين النصيب والاختيار في الزواج:

الزواج الناجح بين النصيب والاختيار

لا شك أن الزواج الناجح يحتاج إلى توازن بين الإيمان بالنصيب والاعتماد على الاختيار الصحيح. الإيمان بالنصيب يمنح الإنسان الطمأنينة والرضا، ويخفف من الضغوط النفسية الناتجة عن التوتر حول المستقبل. في المقابل، الاختيار الواعي يمثل حجر الأساس لبناء علاقة متينة تقوم على التفاهم والاحترام والاحساس بالمسؤولية.

إن الوعي بضرورة التفاعل بين النصيب والاختيار هو ما يجعل الزواج أكثر نجاحًا واستقرارًا، إذ يكون هناك استعداد لقبول ما يأتي به القدر، مع الاستمرار في بذل الجهد لتطوير العلاقة الزوجية والحفاظ عليها.

خاتمة

تظل مسألة الزواج هل هو نصيب أم اختيار من أكثر القضايا تعقيدًا في حياة الإنسان، إذ لا يمكن فصل هذين العنصرين أو الاستغناء عن أحدهما. الزواج يجمع بين القدر الذي يضع الإنسان في بيئة وظروف معينة، والاختيار الذي يمنحه القدرة على اتخاذ قراراته بشكل واعٍ ومسؤول. التوازن بين النصيب والاختيار هو الذي يضمن بناء علاقة زوجية سليمة ومستقرة، تسهم في تحقيق السعادة والطمأنينة للأفراد وللمجتمع على حد سواء.

المصادر والمراجع

• عبد الرحمن بدوي، الفلسفة الإسلامية: بين النصيب والاختيار، دار الفكر العربي، 2015.

• جوديث هيرمان، علم نفس الزواج والأسرة، ترجمة د. أحمد الغامدي، مكتبة العلوم النفسية، 2019.